اغتسال – فروغ فرخزاد (ترجمتي)



نزعت ملابسي في الهواء الثمل
لأستحم عاريةً في ماء الربيع,
لكن الليل الهادئ أغواني
لأخبره قصتي الموحشة.

أمواج الماء الباردة المتلألئة
تتأوه وتحيط بي بشهوةٍ,
دَعَت بأياديها الكريستالية الناعمة
جسدي وروحي إلى طياتها.

نسمةٌ بعيدة سارعت إليّ,
سكبت حقل أزهارٍ في شعري
تنفست فيّ نعناعاً أوراسياً,
لاذع الرائحة, يتشبث بالقلب.


صامتة وملتهبة,
أغلقت عيناي,
ضغطت جسدي على العشب الغضّ الناعم
وكامرأة انطوت بين ذراعي عاشقها
وهبت نفسي للماء المنساب.

منتشيةً, ظمآنةً ومحمومة,
شفاه الماء
أرخت قبلاتٍ مرتعشة على فخذاي
وفجأةً انهارنا,
ثمليْن,
ممتنيْن
كلانا مذنبيْن,
جسدي وروح الربيع.

رغبتي التي أركض وراءها، تركض أمامي، أسرع مني.



أنتظر سائق السكوتر، أقف أمام الكشك لأشتري اكياس قهوة، حتى مجيئه، أضع أمام البائع ثمانية أكياس سريعة التحضير واناوله ورقة من فئة العشرين، يبتسم ويقول لي ثمانية في ثلاثة بكام؟ فأخبره بابتسامة بأنني اشتريت نفس الكيس منه صباحاً باثنان ونصف، وأخرج له آخر كيس تبقى معي من يومي الطويل، فيرد ابتسامتي ابتسامة منه ويقول يا عم ولا يهمك. أضع الأكياس في حقيبتي وأؤمن على كل ما فيها قبل التحرك، حتى لا تحدث مصيبة أخرى، ومن يعرفني يعرف المصيبة الأولى.

راودني جسم من الخلف ثم تفاداني ليأخذ موقعي أمام الكشك، كان عاملاً في الجزارة المجاورة للكشك، قال بصوتٍ عالي، “ولا حاجة من اللي عايزها حصلت، هات سيجارتين يا محمد” انتظرت لأعرف ولم يقل، انتظرت ليرد عليه البائع فلم يقل، أعطاه السيجارتين ومضى.

جاء السكوتر.

ركبت معه، سألني الأسئلة المعتادة “على فين يا فندم” مع أنه يعرف، “نمشي منين” مع أنه موضح أمامه، “ممكن تطلع كمان شوية قدام” مع أنني ملتصق بظهره.

اليوم سقط هاتفي على بلاط العيادة، تهشمت شاشته، صديقتي تقول بأني محسود، وأنا أقول بأن الأمر لا يهم، يكفيني شعور بالخسارات هذا الشهر، أقول لها بأنها ليست قدامي أو رقبتي، فلا داعي للأسى.

صديقي سُرق منذ شهور، أخبرنا فور وصوله إحدى اجتماعاتنا بأنه ضيع هاتفه لتوه، طلب منا أن نتصل عليه، وحينما جاءنا الرد بأن الهاتف المطلوب هاتفٌ مغلق، قال لنا “فاكس” صديقي يعلم اللي فيها.

غالباً ما نتذكر هذه النوادر، ولحظات الأسى المفاجئة ونحن جلوس على القهوة ونقول boys, boys.

ولكن هذه المرة لم يكن البويز معي، كنت وحدي، ولذلك كان عليّ أن اواسي نفسي ما استطعت.

أتذكر امتيازاتي قبل الخسارات، فمثلا، معي هاتف آخر طوال الوقت، ورغم أن الهاتف المهشم هو الأهم، بدرجة لا تقارن إلا أنني لن اضطر للبحث عن غيره فوراً. وبينما أنا في طريقي، أضع في اذناي سماعات الأذن العازلة للصوت، أشغل بختة للشاب خالد، وانتظر مفعول الراي في الحدوث.

أخبرت اصدقائي مرة بأنني على يقين بأن في الراي سحرٌ ما، هناك موسيقى طقوسية، طبقات ومراحل، وفي المساحة الصوتية بين تلك الطبقات، هناك عملُ ساحر يحصل.

بختة، تلك التي سحرت شيخاً في وهران، لا بالأعمال أو بالنوايا السيئة، بل بها، فقط كونها بختة، زينة البنات، العجابة الهوارية، نجاة اليوم، النور الذي ينادي، صافية الوجه كمرآة. أسمعها ولا احاول تخيل بختة، بل أرى بختي، أو من كانت. دائماً في الأفق، وفقط في الأفق، لا تقترب، مهما خطوت نحوها.

يصف حضورها شيخ وهران بعد أن غابا عن أعين بعضهما لأشهر:

“جاي في كاليش، مراسية كي أمير الجيش، الرقبة كي الطورنيش، صافية والوجه مراية.”

كم ملئت عينه، وكم كان يخشاها.

يتخلل الهواء وجهي، لا يشبع صدري منه، أخشى أن أموت غرقاً، ولو أني أوشكت في مرة، لما عرفت الهواء كما أعرفه الآن, يعبر بي السكوتر كوبري الجامعة، وعلى الألحان اغرورقت عيناي، رقصت معي الأبنية الشاهقة، رقص النيل ومراكبه، على عكس شيخ وهران، لم يأتي رجل بشار، لم يزل ما بقلبي من المحن، اقاوم وضع رأسي على ظهر سائق السكوتر، أقاوم كل شيء، كل أنواع الانهيار، رغبتي التي أركض وراءها تركض أمامي، أسرع مني.

“ذبلت قلبي وحدي
كيتي من البختة كيه”

يصل السائق إلى المكان الذي اخترت الوصول إليه، يركن السكوتر ويلتف لي بجسمه، ويقول هتنزل هنا يا فندم..

أنا مش عايز أنزل.

أن تحبك

أن تسمع دوي القنابل في رأسك
تلك التي لطالما انفجرت دون أن يسمعها أحد

أن تسكب على يديها حمم رأسك
فتسقط على يديها ندفاً بيضاء من الثلج

أن تقرأ خرائط وجهك
وتدلك بعدها على الطريق الملائم لمزاجك

وفي معظم الأحيان
يكون الطريق الملائم تجاه وجهها هيّ.

أن تسيل معها كالنهر
وتسقط على صوتها
بلا خدوش
بلا تاريخ
وبلا رغبة في تجاوز الحاضر
إلى مستقبل ليست فيه.

أن تمشي نحوها ألف خطوة
بجهد خطوة،
وتشعر وكأن السعي
نحوها مطوي في الزمن
فلا يبدأ الوقت دونها
ولا ينتهي
طالما أنت بجوارها.

أن تزدحم على بوابة لسانك الكلمات
وتفلت كلمة
وتفهم منها ما وراء الباب

أن تعانقها بعينك
فتأتي وتعانقك بكامل جسدها.

وأن تعانقها بكامل جسدك
فتكبر بين ذراعيك
حتى تصبح فيها
آمناً من كل أذى

أن تقضم شفتيها فتعرف
ما لم يخطر على قلب بشر

أن تتوسد صدرها
فتغدو حرائق رأسك سحباً بيضاء

وأن تهطل معها
فتنبت من حزن غيمتك
غداً

أن تأخذ ما تبقى من قلبك
وتصنع به مملكة

أن تحبك
فقط
لا أكثر ولا أقل.

أن تحبك بما يكفي،
لتشعر بنفسك،
وتتذكر أن لك جسداً بين يديها.

سكينة

لم تكن وفاةً تكسر الظهر، بل تسكب في القلب دمعة، كاحتراق مكتبة، أو إخماد شعلة في ليلة شتوية، كنسيانٍ نتذكره بعد فوات الأوان.

يسألني أصدقائي هل تريد أن تعيش طويلاً؟ لأطول فترةٍ ممكنة ربما، ومع ذلك، أعلم بأني سأموت قبل الأوان. ولكن في ميعادٍ مناسب. ولم أُسئل من أود أن يعيش طويلاً، بالتأكيد قمر، سكينة، نبوية، كُلّ جداتي.

كانت سكينة كقمر، جسدٌ يتراكم على عتبةِ الزمن، تزداد عليه الأيام فيزداد ارتفاعاً بها. تُحنط الحكايا تماماً كأختها، وترويها بحكمةٍ نادرة، وتعيش في برجٍ من الذاكرة. لينخدع الرائي بكهولتها، وتفاجئه بيقظةٍ، باتّقادٍ، وبذاكرةٍ عن ما قبل كلّ شيء.

كانت ابتسامتهما، تشبهُ قُرىً صغيرة، ابتساماتٍ خضراء، خفيفة، ويانعة. آن لها أن تُحصَدَ كما يليق ببستان، وأن تُفارق تاركةً مرارةَ أن يُحصدَ بستان.

أسأل أبي هلّ مرضت فجأةً؟ أم هو العمر، يصمت قليلاً ويجيب عبر الهاتف: لا خلاص، الوقت.

لم يقل العمر، فكلاهما عمّرا، من قبل أن يُسجلها، ولبعد أن يجدي نفعا تذكر ميلادهما، يموت الذكور في قريتنا أسرع، وتعَمّر النساء، كالمكتبات، ويهجرن كالمكتبات، ويجدهم ضالٌ ويهتدي، كالمكتبات، تماماً كمنارة، بعيداً عن الصخب، قريباً من الزمن، على حافةِ اليأس، فقط لإنتشالك.

ماتت قمر فحملت سكينة وجهها، فلم نكن نراها سوى لنرى أختها، ولم تكن ترانا سوى لتراها في عيوننا، وكان في عينيها كلّ شيء، أجيال وأزمنة، حكايات وارتحالات، أوتاد وبيوت من الطين تُبنى، أولاد يزحفون ويركضون، وأحفاد يهدمون وينسون ويبنون من جديد.

لو أن هناك زعيماً نهائياً لهذه اللعبة، نهزمه، ونستبدله بأنفسنا، لنملك زمام كلّ شيء.

أنصهر في شوارع القاهرة، ما زال الصخب ساكناً فيها، كما عشّش صوت البحر في اذناي.

لم يعد بإمكاني رؤية وجوه جديدة، أيقنت أن الله خلق سبعة أو ثمانية أوجه، وكل ما أراه تباديل بينهما.

أصابعي تفقد قدرتها على الثبات، تدريجياً، هناك عاصفة تحت جلدي، تكسر في صمت، ثباتي في الباص.

شاشةُ الباص الجديد، ترتعش في خلل، لا تستقر على حال.

بجانبي فتاتان تتحدثان عن بينوس، عن فرع الدقي وفرع مدينة نصر، كأنهما يتحدثان عن مكانٍ أثري، نادر، ثم بدءا بمقارنة الفروع.

أمامي فتاةٌ بشعرٍ ذهبي، ليست ماي تايب، لكنها وجهٌ جميل، أصابعها في ثبات وسرعة تخاطبان شخصاً ما على شاشة الهاتف، وجلدُها الأبيض، على علاقةٍ صحية بالشمس.

– شكلك زعلان، تقول في رسالة صوتية لمن تخاطبه.
– ايوه، أقول أنا.

الفتاتان بجانبي يقارنان المعيشة بين مصر وتركيا، ويستغربان أن هناك طفلًا يبيع المناديل في “مواصلات مصر” تقول واحدة منهما: ده اللي كان بيميزه!

إحداهما تخبر الأخرى، أخدت المنوم امبارح ومنمتش، قعدت اهيس طول الليل.

لا ضمان أملكهُ لئلا أخسر شيئاً هذا اليوم، لا أعرف ما الذي سيسقط من حقيبتي هذا اليوم، منذ يومين، في نفس الباص أضعت راتبي، وبالأمس خسرتُ جدتي، أضع السماعات، أسكبُ في أذناي بحر أبو جريشة، أتدفق معه كالنهرِ، لأبعد مصبٍ ممكن.

ينطق بحر فيصمت كلّ شيء. وحده لا شريك له، يُبكيني، يجعل من كلّ خطوةٍ دمعة، ومن كل تنهيدة، ناراً، تذيب ثلوجاً من الحزن، يهوى شلالٌ صامت من مكانٍ بعيد، من ماضٍ لم يكن مهماً من قبل، والآن لم يعد هناك غيره لنتذكره.

تُقبضني تلك المطاردات الصامتة، تكسرني أغنية، دون سابق إنذار، باغتتني بينما كان صديقي يتعرف بها على عامل المقهى، شغّلها ليتشاركا شيئاً فيتعرفا، وإذ بها تهرب من بين أيديهم لترشقَ في قلبي. ليه يا زمن تقسى علينا.