في ضجيج الأشياء من حولي أفقد نفسي. لي صديقة تسكن غرفةً في قلبي، أخبرتها ذات يوم أنني أحلم دوماً بحيتانٍ تسبح في السماء، واليوم أخبرتها أنني أريد أن أصبح تنيناً عندما أكبر، أطير بهول جسدي فوق كل شيء، وأنفث النيران وقتما أغضب. صديقتي تحب الفن، ترسم وتنحت كما لو أنها تتنفس، وهي الوحيدة التي شعرت بأن في مخيلتها ما يسمح أن تراني صغيراً، بما يكفي على الأقل لأتمنى شيئاً إضافياً عندما أكبر. الكل يراني كبيراً، حتى عندما كنت صغيراً. عمري خمس وعشرون، وما زالت الحياة أمامي، بعيدةً عني حتى، ومع ذلك، أشعر كما لو أنها السنة الأربعون لي على هذه الأرض. خمسٌ منها مروا في سنةٍ واحدة. ربما لن أصبح تنيناً كما أردت، وربما لن أصادف حيتاناً تُحَيّيني من سماوات العاصمة، ولكني أعرف أنها سترسمني كذلك يوماً ما. ولهذا أنتظر في هذه الحياة وأغفر، بكل ما أحمله على كتفاي، وبكل ما سأحمله عليهما مستقبلاً.

عن الحب، ربما

أن نقضي الليل بطوله
نخمن مطلع أغنيةً لأم كلثوم
أن تتأكد من أن صديقك يشرب الماء حين يحتاجه
أن تبكي أمام الكل
دون أن تشعر بالقرف من نفسك
أن تسابق أحدهم
وتيقن أنك خاسر
أمام المنطق
ولكن ليس أمامه.

الحب هو أن تشعل يديك
لتدفئ بها أيادٍ غائبة
وأكثر
أن تبقيها دافئة
حتى يعودوا.

أن تترك القمر
يلقي عليك
قصائده بطول الليل
دون أن تشعر بالملل
فقط لأنك لست وحيداً.

الحب أن تبكي مع اصدقائك
لأن أباك
في ما مضى
لم يكن نفسه فآذاك
أو كان نفسه
فآذاك أكثر.

أن نصطف حول أكثرنا يأساً
حتى لا يكون
“على باب الأبدية”
وحده

أن ننتظر حتى السابعة صباحاً
حتى نشعر جميعاً بالنعاس
أو يستفيق آخرنا ليذهب إلى بيته سالماً

أن ننصت عندما يبكي اولنا
وننتظر حتى يفرغ آخرنا
ونتبادل جميعنا العناق

الحب
أن تنتظر النهار
حتى تطمئن على من تحب
وتسألهم عن رحلتهم من عالم الأحلام
وأن يسألوك عمّ إن كنت سالماً
من عالم الكوابيس.

أن تذكر حباً ماضياً
ولا تتمنى له شيئاً
سوى السلامة
أو العودة.

أن تحصي جسدك قبل النوم
وتتوقف عن ذلك أمام أصدقائك
لأنكَ في مأمن.

أن تفتح قلبك حد النزيف
وتأمن للضمادات من حولك.

أن تخرج ألمك
أمام الجميع في الشارع
ككشك مهجور
وتنتظر أن يشتري منك أحدهم

أن تؤجل انتحارتك
حتى تحصل على قبلة موعودة
أو حتى
ترخي رأسك على كتف
أحدهم

أن أنتظرك حتى تعودي
أو انتظر الشعر
حتى استعيدك

تنشأ بيني وبين حالات التركيبات المتحركة – كبار السن خصوصاً – علاقة من نوع جديد، فبينما بالإمكان التخلص من الحشوات القديمة والمعطوبة أو من الضرس تماماً في حالة فقدان الأمل، حالة التركيبة المتحركة تأتي بالفراغ نفسه، وتطلب الإستعاضة، وبعد الكثير من الشرح، والكثير من العمل، يولد الطقم، بأسنان كاملة أو جزئيا، مصممة لتستقر في الفك المسكين، وإذا ظن قارئي أنها النهاية فهههه احا. يتحول الطقم إلى مولودنا الجديد، إلى أساس علاقتنا، إلى كائن حيّ يتفاعل، يتغير، يصاب، وينكسر، ودائماً يتغير الفم من حوله، ولكن الحالة مقتنعة بالعكس، أن المادة الصلبة هي من غيرت من شكلها ومقامها، هي من اتسع حول الفك وتوقفت عن التشبث بسقف الحلق، وأنا السبب بشكل ما، أنا والطقم، كلانا نُجرم في حق الحالة. آخذ الطقم المكسور بين يدي، أمسح عنه ما ترسب عليه، أغسله وأحاول إصلاحه في العيادة إن توفر الحل، وإن لم يتوفر، أفرقه عن حضانته، ابعثه إلى مشفى الأطقم المتحركة، معلقاً له المحاليل، مغطياً إياه بالمناديل وعلى صدره رسالة إلى الفني “فيه أمل؟”

في الحالات التي يتحتم علينا أن نستبدل الطقم بطقم جديد، فذلك على الحالة بعزيز، فراق يتصدع له الفؤاد، تبكيه الفاقدة كثكلى أو يبكيه كأرمل، وأنا على الكرسي أنظر لهم بتفهم، ومع الكثير من الإقناع والكثير من العمل، ننجب طقماً جديداً لتستمر اللعنة، وإن ظننت مجدداً أنها النهاية فههههه خخ احا، فما الحب إلا للحبيب الأولي، لأن “الطقم ده مش زي القديم يا دكتور”، أعرف، “الطقم ده مش مريحني يا دكتور.” أعرف وأقسم بالأوليمب وما عليها من منايك أني أعرف، لكل شيء دورته في التأقلم، وما عليّ سوى الإقناع.

ما بين الغربة والاغتراب.

في الغربة ستمرض دون أن يعرف أحد
ستأكل من أيادٍ لا تعرفها
وتدعوا ربكَ
أن يفكروا مثل أمك عند عمل طبق الملوخية.
ستمشي في شوارعِ المدينة الكبيرة
لا يعرفكَ الناس
ولا يعرفون أنفسهم.
ستستعيذُ بالكلمات والشاشات المضيئة من خطر الوحدة.
سيقتلك الحنين إلى شيء ما تتخيل وجوده في بيتك
ستنسى كُلّ أسباب الهروب
ستشعر بآدم، وتلومُ ضلعكَ على ضعفه
ستصادقُك الشياطين
وستصادق جسدكَ لخشية نسيانك لهُ في الزحام.
ستبحثُ عن الله في الليل
بعيداً عن مسبحة أبيك
وسجادة أمك.
ولن تجده
وربما سيجدك.
ستشرب قهوتكَ
دون أن يعرف أحد سُكرك.
ستشعلُ السحب من حولك
وتصادق الحيتان التي حلمت بها
تسبحُ في السماوات من فوق،
ستحب البحر
وتغرق فيه
وتكتم غرقك سراً
لئلاً تفقد أمُكَ ثقتها في سلامك
ستضحك كثيراً
وستبكي كثيراً
ولن يعرف أحد.
ولن يعرفك أحد
إلا إذا
عرفتهم أنت.

في الإغتراب،
ربما، ستكون في منزلك
على سريرك
تكسبُ كُلّ ما سبق
وتخسرَ نفسك.

٣/١٢/٢٠٢٣

عزيزي الحب. حلمتُ بكِ اليوم، تتكئين على الحائط الملاصق لسريري، كنتُ نائماً كجسدٍ ولكن، خرجتُ منيِ ومن حُلُمي لأراكِ، قنديلٌ من الضوءِ يحرسُ أحلامي، يجعلُ مِن جسدي قطعةً دافئة تنبض، هل رأيتي قلباً ينبضُ من قبل؟ لم أجدني من قبلُ بهذا الدفء، سوى عندما كُنّا سوياً في ما مضى. طفلٌ في مهده، عصفورٌ نجى مِن بطش المطر. قالت لي إحدى صديقاتي بأنّي موسمُ العصافير. لم أصدّق أنّي قد أكون ربيعاً لأحد.

رأيتكِ تعتدلين من جلستك، تقتربين من جسدي وتمسدي خدّي بابتسامةٍ حانية، وتعودين إلى موضعك، هلّ قبلتي يداكِ أم هُيِءَ لي؟ لاحظتُ بعدها شبحَ ابتسامةٍ على وجهي النائم، استغرقتَ لحظات حتى عبرت المسافةُ بين جسدي وبين طيفي الذي يسبح من حولكما.

عزيزي الحبُ، تغتالُ الكلمات والمسافة ما بالقلب من وَجدٍ واشتياق، لعلَ الرسائل تُفصح عمّا يكفي لتمهيد عودتك. أكتبُها بك. لعلكَ تسمعُ النداء.

يؤسفني إخبارك بأني لم أرغب في الإستيقاظ، لأنّي أعلم بأني سأعود إلى خانة اليقظة المعبأة بالإنتظار، ولكن ما الحلّ إذن. ما علينا

نسيت، وحشتني.