رغبتي التي أركض وراءها، تركض أمامي، أسرع مني.



أنتظر سائق السكوتر، أقف أمام الكشك لأشتري اكياس قهوة، حتى مجيئه، أضع أمام البائع ثمانية أكياس سريعة التحضير واناوله ورقة من فئة العشرين، يبتسم ويقول لي ثمانية في ثلاثة بكام؟ فأخبره بابتسامة بأنني اشتريت نفس الكيس منه صباحاً باثنان ونصف، وأخرج له آخر كيس تبقى معي من يومي الطويل، فيرد ابتسامتي ابتسامة منه ويقول يا عم ولا يهمك. أضع الأكياس في حقيبتي وأؤمن على كل ما فيها قبل التحرك، حتى لا تحدث مصيبة أخرى، ومن يعرفني يعرف المصيبة الأولى.

راودني جسم من الخلف ثم تفاداني ليأخذ موقعي أمام الكشك، كان عاملاً في الجزارة المجاورة للكشك، قال بصوتٍ عالي، “ولا حاجة من اللي عايزها حصلت، هات سيجارتين يا محمد” انتظرت لأعرف ولم يقل، انتظرت ليرد عليه البائع فلم يقل، أعطاه السيجارتين ومضى.

جاء السكوتر.

ركبت معه، سألني الأسئلة المعتادة “على فين يا فندم” مع أنه يعرف، “نمشي منين” مع أنه موضح أمامه، “ممكن تطلع كمان شوية قدام” مع أنني ملتصق بظهره.

اليوم سقط هاتفي على بلاط العيادة، تهشمت شاشته، صديقتي تقول بأني محسود، وأنا أقول بأن الأمر لا يهم، يكفيني شعور بالخسارات هذا الشهر، أقول لها بأنها ليست قدامي أو رقبتي، فلا داعي للأسى.

صديقي سُرق منذ شهور، أخبرنا فور وصوله إحدى اجتماعاتنا بأنه ضيع هاتفه لتوه، طلب منا أن نتصل عليه، وحينما جاءنا الرد بأن الهاتف المطلوب هاتفٌ مغلق، قال لنا “فاكس” صديقي يعلم اللي فيها.

غالباً ما نتذكر هذه النوادر، ولحظات الأسى المفاجئة ونحن جلوس على القهوة ونقول boys, boys.

ولكن هذه المرة لم يكن البويز معي، كنت وحدي، ولذلك كان عليّ أن اواسي نفسي ما استطعت.

أتذكر امتيازاتي قبل الخسارات، فمثلا، معي هاتف آخر طوال الوقت، ورغم أن الهاتف المهشم هو الأهم، بدرجة لا تقارن إلا أنني لن اضطر للبحث عن غيره فوراً. وبينما أنا في طريقي، أضع في اذناي سماعات الأذن العازلة للصوت، أشغل بختة للشاب خالد، وانتظر مفعول الراي في الحدوث.

أخبرت اصدقائي مرة بأنني على يقين بأن في الراي سحرٌ ما، هناك موسيقى طقوسية، طبقات ومراحل، وفي المساحة الصوتية بين تلك الطبقات، هناك عملُ ساحر يحصل.

بختة، تلك التي سحرت شيخاً في وهران، لا بالأعمال أو بالنوايا السيئة، بل بها، فقط كونها بختة، زينة البنات، العجابة الهوارية، نجاة اليوم، النور الذي ينادي، صافية الوجه كمرآة. أسمعها ولا احاول تخيل بختة، بل أرى بختي، أو من كانت. دائماً في الأفق، وفقط في الأفق، لا تقترب، مهما خطوت نحوها.

يصف حضورها شيخ وهران بعد أن غابا عن أعين بعضهما لأشهر:

“جاي في كاليش، مراسية كي أمير الجيش، الرقبة كي الطورنيش، صافية والوجه مراية.”

كم ملئت عينه، وكم كان يخشاها.

يتخلل الهواء وجهي، لا يشبع صدري منه، أخشى أن أموت غرقاً، ولو أني أوشكت في مرة، لما عرفت الهواء كما أعرفه الآن, يعبر بي السكوتر كوبري الجامعة، وعلى الألحان اغرورقت عيناي، رقصت معي الأبنية الشاهقة، رقص النيل ومراكبه، على عكس شيخ وهران، لم يأتي رجل بشار، لم يزل ما بقلبي من المحن، اقاوم وضع رأسي على ظهر سائق السكوتر، أقاوم كل شيء، كل أنواع الانهيار، رغبتي التي أركض وراءها تركض أمامي، أسرع مني.

“ذبلت قلبي وحدي
كيتي من البختة كيه”

يصل السائق إلى المكان الذي اخترت الوصول إليه، يركن السكوتر ويلتف لي بجسمه، ويقول هتنزل هنا يا فندم..

أنا مش عايز أنزل.

اكتب تعليقًا

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.