فقرات من أيامي

——
يسألني طبيبنا الأجمل والأثرى في المستشفى

د.كامل: العضم بيتميز بحاجتين، قول حاجة
أنا: بيتمدد؟
د. كامل: قول حاجة
أنا: المرونة؟
د. كامل: قول يا حاجة يا محمود
أنا: حاجة.. ؟
د. كامل: الله ينور عليككك (يضحك)

———-

منذ أشهر وأنا في دوامةٍ تَصِل ليلي بنهاري، استيقظ وأذهبَ إلى المستشفى، أقضي نهاري في خلع وحَشي وتنظيف الأسنان المعطوبة، ومن الساعة الثانيةً حتى الثالثة عصراً، أحدّق في اللاشيء في طريقي إلى العيادة، حتى يظهر النيل، أستيقظ معه برغم أني لم أنم، أعمل في عيادةٍ فرعٌ لها بالمنيل، وظهور النيل اقترابُ لميعاد الوصول، أتتبع شريطَ النيل مِن الزمالك حتى كوبري الجامعة، أتسائل هل مِن أجسادٍ مطمورة تحتَ انسيابيه هذا الكيان؟ أين يظهر من يسقطُ من سور كوبري الجامعة؟ لعلهُ يظهرُ أمام ناظرةٍ على شاطئ نيلِ المنصورة، ولعلها لا تحدقُ بما فيه الكفاية لتَعرِفَه.

استلقي على كرسي العيادة، أتنفس هواء المكيف المعدّل، ظهري يؤلمني كلما تذكرته، كأشياء عديدة في حياتي حالياً، أحاول التغاضي عنها حتى لا تؤلم. حصاةٌ كبيرة متروسةٌ في نعلي، تُدميني كلما تحركت. اليوم بلّغتني مريضةٌ أنّ حقنة البنج التي أعطيتها لها بالأمس خدّرت شَفتَها وطرفَ أنفها، طمأنتها مُبلّغاً إياها أن تفرّعَ العصَب يجعل حدوثَ أمرٍ مماثل وارد، ولا شيء يستدعي القلق. صَدّرَت لي قلقها وأطمئنَتْ هيّ.

——

عندما أرتاح على السرير، لا أشعر بالراحة فعلًا، عندما أغمض عيني، لا أنام حقاً، كل ما يحدث ظاهرياً لا يتصل بما أشعر به داخلياً، أنساب أو أسقط بعنفِ – على حسب الحالة – في أحلام مختلفة، تشتعلُ مَاكينة العقل بيقظةٍ دائمة، استيقظ مِن حدثٍ إلى آخر، وتستمرُ البقايا تصل بعضها البعض مكونةً واقعاً مغاير.

——

كان هاتفي على أذني اليمنى وبيدي اليسرى أسجل بيانات مريضة ستزورني للإطمئنان على صحة ما اشتغلناه منذ فترة، ظهرت الدكتورة ريهام أمام تسألني “انت فنان يا محمود؟” استغربت السؤال “هخلص التلفون واكلمك يا دكتور” “اه انت بتتكلم!”

أنهيت مكالمتي وذهبت إليها، وضعَتْ أمامها كوبَ النسكافيه وجلست على مكتبِ المدير، سحبتُ كرسياً وسألتها “ايه يا دكتور كنتي بتقولي ايه؟”
“فيك حاجة متغيرة، انت بترسم؟”
“قصدك بعمل حاجة كرييتف؟”
“بص مش عارفه، حساك متغير عن لما كنت هنا”
“بقيت اشتري هدوم :))، بس اه، بكتب وأصور”
“وريني!”

فتحتُ لها حسابي على الإنستجرام، قلّبت فيهِ حتى قطعَ تركيزها داخلي الغرفة، تابعتني مثنيةً على الهدوءِ الطاغي على الصور، تلك فقط، هيّ اللحظة الوحيدة خلال اليوم، شعرت فيها بأني موجود.

—————

“أشعر بالخوف من الظلماء فضميني
أشعر بالبرد فغطيني
وظلي قربي
غنيلي
فأنا من بدء التكوين
أبحث وطن لجبيني
عن حب امرأة
يأخذني
لحدود الشمس ويرميني.”

نزار كاتباً وكاظم مُغنياً.

————

أمضي يومي جالساً على الأسوار، حدٌّ بينَ عالمين، من أمامي هاوية، ومن وراءي مللٌ لا يطاق، من وراءي عمل، ومن أماميَ أمل، هل إذا سقطتُ الآن، أضمنُ الوصول إلى مكانٍ أجمل؟

——-

ومين فينا يزعل؟

11:30 صباحًا.

طافيا على الماء, على ظهر المعدية, أبدأُ سردي, كنت قد استندتُ على سورها محملقًا في الماء, كان أزرقًا وكان أخضرًا وكانت الشمسُ على ظهرهِ تتلألأ. أجلت بنظري, الكل مرهق, القليلُ من الناسِ كثيرٌ هنا. المسافاتٍ بين الأشخاص مهما اتسعت فهي ضيقة, مؤخرًا, دام الشعور بأن الجميع أقرب من الجميع مما يجب –  دائمًا. جلستُ إلى كرسي وقبالتي الفتى الذي زاحمني على الصعود. قميصهُ باهتٌ وجلدهُ أيضًا, أمه بجانبه, نظرت إلى للحظةٍ فور جلوسي ثم نظرت باتجاه عجوزٍ وأكملت حديثها معه.

“شغلّ الواد” محيلتيش غيره، ومدت يدها إليه ب١٠٠ جنيه مكرمشة، أخذها وفردها, قلبها بين راحتي يدهِ ودفسها جيبه: ابنك بتاع مشاكل وقليل الأدب.

نظر إلى الفتى، ونظر الفتى إليه. شنبهُ نابت أعلى شفتيه، جلدهُ الباهت نحاسيُ اللون، ونظراتهُ عدائية تخبر بما يكتمه لسانه.

نظر إليها وقال “هو انا عندي كان سنة يامة؟” ردت عليه بهمسٍ “١٥.٥” فنظر إلى الأرضِ، تعلو وجهه حيرة، وباشرَ الرجل قائلًا: عندي ١٦ يا حاج، ١٦.٥ كمان. كان العجوز على الكرسي الملاصق لكرسيهما, قرب وجهه من الفتى وقال له “فينا اللي يزعل؟” ابتسم الفتى محاولًا التذاكي في الرد حتى أطال السكوت, اكتفى ب”لا” وغابا عن بالي من بعدها.

Mise en Chaos

لن أصل.

لم أجد شيئًا في مكانه, الركاب على الأرض والعربات مختفية عن الموقف, إلا التعب, يعتلي جميع الوجوه. تركيبات لغوية, مختارات من السب والنقم, وكيلوغرامات من الإنتظار على كتف كل مسافر. 

لم أتجرأ على الوقوف بجانب الحشد, لم أناقش حتى رغبتي في الوصول إلى حيث عزمت, فقط سحبتُ قدمي إلى حيثُ قد أجد كرسي لظهري وآخر لحقيبتي, الرفيق الأول والأدوم. وربما غادرت.

ثلاثة بدايات ما لنهاية ما.

ولما الكتابة؟

لا أتذكر من الكتابةِ سوى الخلاص، لم أعد أذكرُ الحياة المكدسة بين الجمل، أو التيه الذي أستلذ به قارئًا وكاتبًا وشخصًا. هذه الأيام مكدسةُ بأكثر مما يجب، أكثر مما يُكتبَ أو يُلخص، فقط ما يجدي هو ما يهدهد القلب والجسد، ويزيح عني الخيبة ولو قليلًا.

للتو (أعني منذ أيامٍ أو ساعات) انتهيت من امتحانات منتصف الفصل الدراسي (الميدتيرم)، أسبوعُ مكثف، لا وقت أو جدوى لإستخلاصِ أي شئ منه سوى الخروج برغبةٍ حقيقية في الراحة. شوقٌ إلى النومِ أو ما يعادله لمن اعتاد الأرق. احتجت لأن أفصل أسلاك رأسي، أن أزيت ما يمكنني الوصول إليه واللحاق به في الوقت الضيق، كمن يركض على الحافةِ، لا يجيد استخدام أكثرَ من إصبعٍ في قدميه. أشعر بصوتٍ في داخلي، بجهورية صوت درويش وهو يقول أريد أن أبكي، ولكنه يرغب بالنوم، أو بالإختفاء. فبكل سخرية وتصرف؛ هذا الضغطُ ليّ، هذا الورق وما عليه من أقلامٍ للتحديدِ لي، وإلى أخر القصيدة والسخرية. 

أجدُ العزاءات مخبئةً في كلمات الآخرين، لا أصدق العزاءات المعلنة، لا أصدق من ينظر إلى عيناي ويخبرني بسيّر الأمورِ وما يراه خيْرًا، لا أصدق أحد. فقط عندما يحدثُ نفسهُ، عندما يدرك بأن شيئًا ما وجَبَ حدوثه للنجاةِ بات في يديه، هناك الحل، وهناك أُنصت. 

لا أشعرُ بخيبةٍ أو قلةِ الكفاءة، أدرك أن المعادلة لا تتم إلا بموتها، فقط عندما تنقصُ الأشياء تزيدُ أشياءٌ أخرى. وعشان المعادلة تزبط معاك لازم تخسر. كما سمعت من شخصٍ لا أحبه في بودكاستٍ ما. 

كم مرةً هرتلتُ بلا بدايةٍ أو نهاية؟ كما مرة أخذتُ بيدِ القارئ، وتركته في متاهةٍ ما وضِعتُ في أخرى؟ ألا أجدُ لنفسي هيأة كاملةً؟ شكلًا يلملم هذه الكلمات المبعثرة؟ لا أظن، ولا أرغب الآن.

أهربُ من تلك الأعين، من البانوبتيكون الذاتي، منهُ عندما يخرجُ من رأسي من طورِ الفكرةِ إلى تجسدهِ في أحبتي، في قلةِ صبري، وعجزي عن فهمهم، وما لا يدركهُ البعض (الكل) هو أنني أخمنُ فِهم نفسي، بأثرٍ رجعي، بما قد تؤثره فيه الفراشةُ أو تأويل المِزاج وما شابه. تلك الهشاشةُ التي نبني عليها كل شئ، تلك الحساسية التي تحيينا، وتقتلنا بأبسطِ ما يكون، وبأبعد ما يكون عن اليقين. 

أدندن الآن أغنية مروان خوري حبيني، وأشعر بأنني أضيع وجهي، أخسر صوتي، أخسر نفسي في أنفس أخرى. أين أنا من تلك الكتابة التي تعيد لي نفسي من جديد؟ بعد كل تعليقٍ على طريقة كتابتي أتعطل لأشهر وأيام، وأفقد كل شئ، هل لأنني أعود جديدًا من جديد؟

من بعدِ ورشة ختم السلطان لم أجد منتجًا مني إلي أيهم، أفقد كل حرفٍ بعد الإنتقاد، لا يتبقى من سوى آذانٍ صاغية، أتصارع مع نفسي، مع ما أريد؛ هذا إن عرفته وتيقنت منه حقًا. لكنني أربي الملاحظات، أربي عاداتٍ لأحصدها، أربي كل شئ واتحمل هذا الخواء المؤقت في سبيل النمو. لا نمو بلا وقت. 

شظايا من الأيام. 

كنتُ على ناصية الطريق، قدمٌ على الميكروباص، وأخرى على الأرض. كنا قد نزلنا لأجل أن يفتشنا عساكرُ الكمين بحثًا عن سببٍ لغربتهم واحتمالهم الشمس. نظرَ إلي لثوانٍ ثم قال “إزيك يا حمدي” تنبهتُ كمن تذكر يقظته وقلت بنغمةٍ هادئة “أهلًا”. عَرفني على نفسهِ وعن قرب قريته من قريتي، سألته عن سابقِ اتصالٍ بيننا، أَكدَ علي ولم أكن – صدقًا – متذكرًا، بادرني بقوله بأنه ليس بالشخص كثير الإختلاط “أنا مش سوشيال اوي” وقلت له بأن هذا قد يكون من محاسن المرء. في الحقيقة لم أكن اعرف شيئًا عنه، لم اعرف لماذا قد يلفظ أحدهم بشئ مماثل؟ فيمَ تحلو العواقب او تسوء؛ وكل فردٍ منمغسٌ في سياقاته الشخصية؟ بعيدًا عن أي متابعة من الأخرين، بعيدًا عن صدق الإهتمام.

في رده علي قال بأن الموضوع لا يختلف عن “السوشيال” بتلك الدرجة، حقيقةً لا أعرف فيما قد يكون الفرق الجوهري في نوع العلاقات، وبالأساس نحن من ننشئها، إذن نحن جزءُ من طبيعة سوءها. سألته “الواحد محتاج كام صديق في حياته؟” ولم نكمل من بعدها. 

من الذاكرة.

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا

كانت الآيات تنضحُ في رأسي، تسري على لساني وكأنها تستبدلُ الكلمات بنفسها، لا أدرِ لمَ أو بمَ أفسرُ، ولكنني لم أستعد تديّنًا مضى أو كانت صحوةٌ من التي ترغب بها أمي وبشدةٍ داهمتني. لا، فقط كنت أتلو لنفسي، بعيدًا عن أي عينٍ، ود لو كانت هذه البداية.

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

وكأنني ألوكُ الأياتِ بفمي, هل كانوا يعلمون؟. 

،،،

مواصلة

يوليو/٢٠١٩
في عربةِ أجرة نصف نقل كنت أجلس في صندوقها الخلفي الأحمر  وأنا استمع إلى بعض الأداءات المباشرة لأغاني أحبها، كنت أول المنتظرين، في ظرفِ نصفِ ساعة كان الإمتلاء الطبيعي لل”تحميلة” ويبدأ جشع السائق المكروب في هندسةِ الوضع ليتحمل أكثر من الكمية الطبيعة من أفراد السردين الذي يحشرهم في عربته “بمزاجه واللي مش عاجبه يروح مشي” ليتحمل الصندوق أكثر من ١٢ شخص وبأوضاع فيزيائية لا تدرك إمكانيتها إلا عندما نجد نصف جسد يستلقي فوقكَ ونصفه الآخر يتدلى في العراء. جاءني سيدٌ يطالبُ بمقعدي الفاخر المطل على الأسفلت والمعد للنزول الفوري وبدون قطع المتر ونصف الذي هو طول الصندوق الخلفي بظهرٍ منحني ورقبةٍ آيلةٌ للسقوط من الهشاشة. نظرتُ إليه لأكثر من ثانية مما دفعه لإستنتاج أنني أسئله: «اشمعنى يعني؟» وأجده من فوره إجابةً على استنكاري الغير معلن «أنا تعبان يا بني وجنبي واجعني» بالطبع لن أناقشه في ما يدعيه، أزحتُ جسدي من فوري واستقبلتُ عصاه التي يستخدمها على حجري حتى يصعد، لم أمانع على الإطلاق وذلك لعدةِ أسباب لن أذكرها كيلا أنشغل بها. جاءت سيدةٌ مسنة رفعت نفسها بكلِ خفةٍ وخاطبت الصف المقابل المصطف بالسيدات أن يفسحوا لها مكانًا على ناصية المستطيل الفاخر الذي يطل كما سَلف الذكرُ على الأسفلتِ وما تجود به شوارع المركزِ حتى مستقرنا في القرية. لم يمتنعوا عن التبرم والتساؤل عن أفضليتها للحضور والتصرف بكل هذه “الغلاسة” لم تردُ السيدةُ إلا بأنها ستنزلُ في محطةٍ قريبة وبرغم أنها كانت متجهةً إلى المحطةِ التي تسبق النهاية بكوبرين فقط. محطات مواصلات قريتي هي الكباري التي تصلُ العمران بالطرق الرئيسية ومشقوقةً بينهما الترعةُ التي اصطلح الجميع على أنها “بحر” أكملتُ طريقي وأنا أراجع حصيلةَ مشواري الذي قررتُ إنهاءهُ وعدم إرجاءه مما تطلب مني الذهاب إلى المركز بدلاً من تأجيله للغدِ مع بعض الأمل بعدم ركوب المواصلات، لم أفعل. كنت مترددًا لوهن قوتي مقارنةً بالأيام السابقة، محاولاتي في تجربةِ حميةٍ في الأكل تظهر نتائجها الخمولية اليوم. ولكنني لم أقتنع بدوام هذا الشعور بالضعف، ملتزمًا بإيجابيةٍ فجائية بدأت مع إنتهاء أغنية لا أعرف اسمها ولكنها لمحمد حماقي، في الحالات العظمى من الإنتشاء بالموسيقى لا أنتهي بالإستغراب من المصدر. لمعرفتي بجماله. المهم، حافظتُ على هذا الوخزِ الطفيف من الدافع وغيرتُ بنطالب الكحلي إلى آخر يماثلهُ ولكنه جينز، سماعاتي معلقةُ على رقبةِ التي شيرت البولو الأزرق الذي كويته بالأمس لهذا المشوار – الخفيف افتراضًا – وبعدها تجرعتُ كوبين من الماء الباردِ، وبنظرةٍ متحسرة وجدتُ زجاجةَ بيبسي كبيرة تتوسط الرف السفلي من الثلاجة، لماذا سُمِح بدخول هذه المحظورات الأمومية هنا؟ ربما إشاعاتُ الدايت والأكل اللذيذ المفاجئ لم تخلو من بعض المصداقية. عندما اقترب مساري على الإنتهاء ومتهيئًا للنزول والإفتكاك من هذهِ الوضعية المسيئة لكل أعضاء ومفاصل أي جسدٍ حي، كانت السيدةُ المسنة قد نزلت قبلي بمحطةٍ واحدة، الجدير بالذكرِ أنها وعدت الركاب بأنها لن تطيل ومع أنه كان بإمكانها الجلوس على الناحية الأخرى ولكن بالداخل مقدار شخصٍِ أو شخصين إلا أنها آثرت ما فعلته ففعلته، مضتُ الدقائق المسافرةُ معنا تسجل تأفف الحاضرات من المختنقات بثقل الراكبة، متمنين نزولها في محطتها القريبة حتى يدخلَ بعضُ الهواءِ بينهن على الأقل، لحظةَ ما حطتِ المسنةُ الخفيفةُ الضخمة أحمالها وكيسَ الخضار الذي حاولت دفسهُ فوق السَبَتِ الأصفرِ المعبأ أفرغت مكاناً هائلًا في لحظةٍ كان هناك عابرٌ يقفُ على أطراف العربةِ الخلفية، بمعنى أصح كان “متشعلقًا” وانتهزَ الفراغ فعبأه، تبرمت المصطفات مجددًا غير قادرين إلا على التحمل، تذكرتُ كم يتحملن في مناحٍ شتى، والصمتُ يكتنفهن كظلمةِ القرى في الليل. “عجيبة يا مصر يا أرض النعم” 
الآن أفكر في رص كل هذه الكلمات في كشكول نصي كبير ومتصل.